بعد الكثير من التشويق والإثارة، أفرجت قوى المعارضة أخيرًا عمّا وصفتها بـ"خارطة طريق للاستحقاق الرئاسي"، وأعطتها أوساطها صفة "المبادرة الرئاسية" التي تلتحق بسلسلة من المبادرات والوساطات التي تناوب الأفرقاء في الداخل والخارج على تقديمها على مدار الأشهر القليلة الماضية، والتي يرى كثيرون أنّها "مُستنسَخة" عن بعضها البعض، وتحديدًا عن المبادرة الحوارية الأولى التي تقدّم بها رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ نحو سنة ونصف.

مع ذلك، بدت "مبادرة" المعارضة مختلفة نوعًا ما عن سابقاتها، فهي لم تنصّ فقط على مبادئ، بل تضمّنت "خارطة طريق"، ولم تكتفِ بمسارٍ واحد محدّد، بل وضعت "اقتراحَيْن" يمكن اعتماد أحدهما بنتيجة المشاورات، وإن تقاطع الطرحان بشكل أو بآخر على العناوين نفسها تقريبًا، من شكل التشاور على طريقة التداعي بلا دعوات، سواء قبل جلسة الانتخاب أو على هامشها، إلى طبيعة "الجلسة المفتوحة" التي "لا يُقفَل محضرها" حتى انتخاب رئيس للجمهورية.

إلا أنّ هذه العناوين التي تقوم عليها مبادرة المعارضة باقتراحيها، المنفصلين-المتصلين، قد تكون كافية برأي الكثيرين للحكم عليها سلبًا، ولا سيما أنّها لا تُطرَح للمرة الأولى في "البازار الرئاسي"، وقد سبق أن رفضها رئيس مجلس النواب نبيه بري صراحةً، المصرّ على أن يكون التشاور برئاسته، والرافض لمبدأ الجلسة المفتوحة التي تعطّل دور البرلمان التشريعي بالمُطلَق، علمًا أنّ هذه الأفكار لو كانت مقبولة لحُلّ "المأزق" منذ مدّة طويلة.

استنادًا إلى ذلك، ورغم ما أثير عن ترحيب اللجنة الخماسية بالمبادرة المستجدّة، وما قيل عن تفضيلها تحديدًا للاقتراح الثاني، القائم على التشاور في مجلس النواب ضمن جلسة الانتخاب وبعد دورتها الأولى، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن "أفق" هذه المبادرة، فهل من جديد يُبنى عليه حقًا؟ وهل يندرج اقتراحا المعارضة في خانة "مبادرة رئاسية" فعلاً؟ وكيف يتلقّفها خصوم المعارضة، وتحديدًا المحسوبون على "الثنائي الشيعي"؟.

في المبدأ، يقول المحسوبون على المعارضة إنّ الطرح الذي قدّمته الأخيرة يمكن أن يفضي إلى انتخاب رئيس للجمهورية لا خلال عشرة أيام كما يقول رئيس مجلس النواب، بل خلال أقلّ من أسبوع، مشدّدين على أنّ المبادرة هي الحدّ الأقصى الذي يمكن قبوله، ولا سيما أنّها تلبّي مطلب التشاور الذي يصرّ عليه بري ومن معه، ولكن بطريقة لا تحوّله إلى بدعة، أو تؤسّس لعرف يتنافى مع الطابع الديمقراطي المفترض للانتخابات الرئاسية.

بهذا المعنى، يؤكد هؤلاء أنّ ما حرصت عليه المعارضة في خارطة الطريق التي طرحتها باقتراحيها، هو الالتزام أولاً وأخيرًا بسقف الدستور وعدم تجاوزه بأيّ شكل من الأشكال، كرمى لعيون توافق من هنا أو هناك، وكذلك عدم التأسيس لأيّ أعراف جديدة، تُضاف إلى الأعراف التي اختلقها البعض في السابق، ويندرج ضمن ذلك جعل الحوار والتوافق "مدخلاً إلزاميًا" لانتخاب الرئيس، وهو ما لا يمكن أن يستقيم في نظام يفترض أنه ديمقراطي.

يرفض المحسوبون على المعارضة اعتبار المبادرة محاولة لرفع العتب، أو رفع المسؤولية ربما، مشدّدين على أنّ الكرة في ملعب الطرف الآخر، وتحديدًا "الثنائي الشيعي"، فإذا كان يريد انتخاب رئيس للجمهورية فعلاً، يمكنه أن يتجاوب معها، ولا سيما أنّها تقوم على فكرة التشاور التي "يدّعي تقديسها"، لكن بعيدًا عن بعض "الشكليات" التي لا ينبغي أن يصرّ عليها، إذا كان هدفه فعلاً إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وليس تسجيل "بطولات وهمية" هنا أو هناك.

من هنا، يشدّد هؤلاء على أنّ رفض "الثنائي" للمبادرة، باقتراحيها، لا يعني سوى أنّ هذا الفريق خلافًا لما يدّعيه، لا يريد انتخاب رئيس للجمهورية، وهو يصرّ على "ربط" الاستحقاق الرئاسي بالأحداث والتطورات في المنطقة، بدءًا من الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ينتظر ربما أن تفضي التسوية المقبلة إلى رفع حظوظ مرشحه، مشيرين إلى أنّ مثل هذا الموقف السلبي من المبادرة سيفضح حقيقة معادلة "الثنائي"، وهي "إما مرشحي أو لا أحد".

في مقابل حديث المعارضة المستفيض عن المبادرة، يعتبر خصومها استخدام تعبير "المبادرة" في توصيف الاقتراحين المطروحين "تضليليًا"، فما قدّمته المعارضة يمكن أن يكون كلّ شيء إلا مبادرة، لأنّ المبادرة تقوم عادةً على تقديم التنازلات وهو ما لم تفعله المعارضة، التي أرادت على ما يبدو رفع المسؤولية عن نفسها، لكنّها أثبتت من حيث تقصد أو لا تقصد، بأنّها من تعطّل الاستحقاق الرئاسي بإصرارها على رفض مبدأ التفاهم والتوافق.

بهذا المعنى، يستغرب أصحاب هذا الرأي كيف يسمّي المعارضون الاقتراحين المذكورين بأنهما "مبادرة"، فيما يتعمّدون أن يضمّنوها كلّ البنود الخلافية التي سبق أن أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية، ومن بينها مثلاً فكرة الحوار "بلا رئيس ولا مرؤوسين"، وهي فكرة لا يمكن أن تُوضع سوى في خانة التصويب على رئيس مجلس النواب نبيه بري، علمًا أنّ أحدًا لم يقدّم مقاربة علمية لكيفية حصول حوار بلا رئيس ينظّمه، إلا إذا كان المطلوب إثارة الفوضى.

وفي الخانة نفسها، يأتي حديث المعارضة عن "جلسة مفتوحة بدورات متتالية"، قبل أن تضيف، للمزيد من الاستفزاز ربما وفق خصومها، عبارة "من دون إقفال المحضر"، حيث يشير المحسوبون على "الثنائي" إلى أنّ المعارضة تدرك أنّ بري لا يقبل بمثل هذا الطرح، وقد سبق أن أبدى موقفه بوضوح، انطلاقًا من قناعته بأنّ الجلسة المفتوحة تشلّ المجلس بالمُطلَق، إن لم تفضِ إلى نتيجة سريعة، وبالتالي تعطّل دوره التشريعي بالمُطلَق.

وفيما يذكّر هؤلاء بأنّ المعارضة نفسها كانت قد شاركت قبل فترة في جلسة نيابية تحت عنوان "تشريع الضرورة"، فيما تريد اليوم قطع الطريق على التشريع بالمُطلَق، يشيرون إلى أنّ كلّ الفكرة التي تطرحها المعارضة لجهة عدم التأسيس لعرف جديد "باطلة"، طالما أنّ مبادرتها تقوم على سلسلة من الأعراف، فهي تقرّ بمبدأ التشاور، ولو بطريقة ملتوية، وهي تفتح الباب على شلّ المجلس، فضلاً عن كونها "تلزم" النواب بالحضور، بغياب نصّ دستوري واضح.

في النتيجة، يبدو واضحًا أنّ ما سُمّيت بـ"مبادرة المعارضة" قد لا تكون أكثر من حلقة أخرى في مسلسل "تقاذف كرة المسؤولية" بين الأطراف، وكأنّ القيّمين عليها أرادوا القول إنّهم من يبادرون، وليسوا من يعطّلون خلافًا لما يحاول خصومهم الإيحاء. وبالتالي فإنّ الرهان على هذه المبادرة لإحداث "الخرق" قد يكون "خائبًا"، لكنّ الخشية أن تؤدي هذه المبادرة إلى تعزيز الانقسام وتعميق "الشرخ" أكثر، وهنا بيت القصيد!.